قصيدة السموأل
نسبتها
الخلاف في قائلها
عبد الملك الحارثي
شاعر مفلق مقتدر، كان في زمن الرشيد وإن لم يرزق شهرة
السموأل بن عاديا اليهودي
شاعر جاهلي، شعره حسن شريف المعاني واضح الألفاظ
تحقيق النسبة:
الظاهر أنها قصيدتان لهما تداخلتا. أكثرها بنمط الحارثي أشبه
سببها:
أن عبد الملك الحارثي خطب امرأة فعيرته بقلة قومه وانقراضهم
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
"المرء" لفظ مشتق من المروءة وهي اسم جامع لما يستحسن من الأخلاق.
ولهذا تستعمل لفظ "المرء" كثيرا في أشعارهم عند الثناء دون الذم.
"العرض" يفسره القدماء بألفاظ عدة، أحسنها قولان، يفسر بعضهما بعض، ويكشف أحدهما الآخر
الحسب:
فـ(الحسب) اسم على وزن (فَعَل)، بمعنى (مفعول)، أي: المحسوب والمعدود من أخلاق المرء وشمائله.
العرض موضع المدح والذم من الإنسان.
يقاربه قول الناس اليوم "السمعة" فدنس العرض دنس السمعة.
واللؤم اسم جامع لشر الخصال.
وقوله "لم يدنس من اللؤم"، من هنا للتعليل أي بسبب اللؤم.
الرداء اللباس، ويجوز أن يكون أراده هنا على معنى الحقيقة، أي فلا يضر المرأ ألبس رداء خلقا أم لبس رداء حسنا فإن نقاء عرضه من اللؤم وسلامته من الدنس صارف عن ظاهر هيئته.
قال رسول الله ﷺ: "إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ".
ويجوز أن يكون (الرداء) هنا استعارًة لما يتلبس به المرء من األفعال والخالئق، وما يلقى الناس به من الشمائل، فهذه له بمنزلة الرداء.
فإذا سلم له عرضه من أن يدنسه اللؤم فإن أي فعل يفعله بعد ما جانب الخطأ، كان حسنا. وكانت سلامة عرضه مزينة لهذا العمل وإن احتقر ومكثرة له وإن قل.
إذا حسن الباطن حسن وإذا نقي لك عِرضك فلا يضرك قبح عَرَضِك.
و"العَرَضُ" حظ الإنسان من الدنيا:
﴿يَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغۡفَرُ لَنَا وَإِن يَأۡتِهِمۡ عَرَضٞ مِّثۡلُهُۥ يَأۡخُذُوهُۚ﴾
مذاهب العرب في ابتداء قصائدها
منهم من يقتحم بك مقصده ويباشره مباشرة حتى إذا فرغ من مراده نفض يديه ثم انصرف.
ومنهم من يتلطف في مدخله ومخرجه ويجعل في مطلعه ما يدل على مقصده، ويوطئ لسامعه ما يهيئه لما سيقول، وهذا في القصائد الطوال أكثر، وعلى هذا أكثرالمجيدين، وهو أولى وأعلى، فإن لكل داخل دهشة، فلا بد من إيناسه.
في هذه القصيدة قدم الشاعر لمراده لما أراد أن يفخر بقومه وأن يرد زعم المرأة التي زعمت أن قلتهم دليل على ذلتهم فقدم لذلك مقدمة يبين فيها معيار التفاضل بين الناس وميزان العدل فيما يفضل المرء به ويشرف.
أصل الحمل رفع الشيء وهو هنا مجاز بمعنى التكليف. والمعنى "إن هو لم يكلف نفسه أن تحتمل الضيم"
والضيم انتقاص الحق والظلمُ. والضمير في قوله "ضيمها" عائد للنفس. أي إذا المرء لم يحمل نفسه على أن تحتمل ما ينزل بها من ضيم.
وإضافة الضيم إلى النفس لنزوله بها.
إذا المرء لم يكلف نفسه احتمال الضيم وقبول الهضم وانتقاص الحق فلا يطمعن في ثناء الناس عليه وفي بقاء محمدة الذكر في عقبه فإن سبيل الثناء أن تطيب نفسك بمثل ذلك وأن تحتمله.
إنما نحمل كلام العرب على معهود طباعهم وأخلاقهم وشمائلهم فالدعوة إلى احتمال الضيم في سياق ثناء وافتخار يفهم على أنه احتمال الضيم من ذوي القربى خاصة ومن أهل الحق عليه ممن لا يكون احتمال الضيم منهم منقصة ومذمة.
خير ما يفسر به شعر العرب، شعر العرب نفسه فنحمل ما أطلق في كلامهم على مقيده...
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا
فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ
وَما قَلَّ مَن كانَت بَقاياهُ مِثلَنا
شَبابٌ تَسامى لِلعُلى وَكُهولُ
معنى التعيير العييب والذم وهو من "العار" أي كل شيء لحق صاحبه بسببه السبة والعيب.
وهو يتعدى لمفعولين بنفسه (وهو الأكثر): "عيرت الرجلَ البخلَ" أي عيرته بالبخل.
وإدخال الباء جائز فتقول "عيرت الرجل بالبخل" (أعيرتنا بالنخل أن كان مالنا)
قليل عديدنا أي عددنا
لغة البيت في تعدي الفعل ليس فيه شاهد صريح على أحد اللغتين فيجوز أن يكون عداه بنفسه ويجوز أن يكون عداه بالباء ثم حذفها تخفيفا.
الكرم هنا أعم من الكرم ضد البخل. فهو هنا اسم جامع لخير الخصال ضد اللؤم.
هنا جاء باسم "إن" جمعا وجاء بخربها مفرًدا، وهو »قليل«، فما وجه ذلك؟
"قليل" على وزن فعيل وهو وزن يقع على المفرد غير المفرد بلفظ واحد كما في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ﴾ ﴿وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا﴾
ووجه آخر، هو: أن من النحويين من يرى أن الجمع إذا وازن وزًنا للمفرد، فإنه يصح أن يعامل معاملة اللفظ المفرد، فعلى هذا القول: جاء الكرام على وزن (فعال)، وهذا وزن موافق ألوزان المفرد، كما يف: (كتاب) و(حمار)، فلما وافق وزن اللفظ المجموع وزن لفظ مفرد أعطوه حكمه يف اللفظ دون المعنى.
فعطف قوله على قولها بالفاء ، وهذا خالف الكثير في كلامهم.
فإنهم إذا أرادوا حكاية المحاورات، » قال ... قلت«: فالأصل والكثير في كلامهم: أنهم لا يصلون فعل
القول بما قبله، بل يأتون به من غير عطف، )قال قلت( ولا يقول: )قال فقلت وقلت(، هذا في الكثير؛ لأن حكاية المحاورة يغلب فيها تكرار فعل القول، فكأنهم أرادوا التخفف من كثرة المكررات، فحذفوا الفاء، وأبقوا فعل القول. بل ربما حذفوا فعل القول أيضا تخفًفا ورغبًة في االختصار.
فإن رأيتهم أتوا بالفاء في موضع أو بالواو؛ فلنكتة ومعنى أرادوه، وكذلك افعل في كل موضع تخالف فيه العرب معهود كلامها، فما خرجوا عن الأصل إلا لعلة، فابحث عنها.
فالذي دعا هذا الشاعر هنا أن يأتي بالفاء شدة استنكاره واستهجانه لدعوة هذه المرأة، فأراد أن يبين أنه لم يتوان في الرد عليها، ولم يبطئ، بل سارع وباشر ذلك، فأتى بالفاء دالة على التعقيب.
(إن الكرام قليل) ، فصدر جوابه عليها بحرف التوكيد، وإنما يحسن تصدير الكلام بالتوكيد عند إخبار المنكر الجاحد ومن في حكمه، وهذه حال المرأة التي يخاطبها. فلا يحسن أن تخاطب من ينكر مجيء زيد، فتقول له: »زيد جاء« ، أو تقول: جاء زيد، إنما تقول هذا لمن كان خالي الذهن وغير منكر لمجيئه، وإذا كان مجيء زيد غير مستنكر عادة، فإن كان مجيء زيد مستنكًرا ً مستغربا، أو كان جاحًدا لذلك، أو مكذًبا، أو منكرا، أو شاًكا ، فتأتي بما يؤكد كلامك، ويقطع شكه ويرد إنكاره ونفيه، فتقول: »قد جاء زيد«، »والله لقد جاء زيد« ، » لقد جاء زيد«
فيقول هذا الشاعر: عيرتنا هذه المرأة قلة عددنا، وجعلت قلتنا عيبًا وسبة، فأنبأتها غير مرتاخ، ولا متوان أن هذه حال الكريم من الناس، ومن كل شيء، فلا يكون النفيس الكريم إلا قليلا، ولولا قلته لما كرُم
وفي مطاوي كلمته هذه ثناء آخر على قومه، وهو أنهم أهل قتال وبسالة، فالموت مولع باصطفاء أمثالهم؛ لأنهم يشرعون صدورهم للمنايا، ويرمون بأنفسهم في المهالك؛ وقاية لحرمهم، وحماية لشرفهم، خلافًا للئام، فإنهم فرّارون من الموت، محتمون عنه، فلا غرو أن يقل الكرام، ويكثر اللئام.
من هنا موصولة، بمعنى »الذين«.
لم رد الضمير عليها مفردا في قوله "بقياه" وكان ينبغي أن قول "بقاياهم". فإن صلة الموصول ال بد فيها من عائد -وهو الضمير- يعود على االسم الموصول مطابًقا
له، فأنت لا تقول: »جاء الذين أحبه«؛ بل تقول: »الذين أحبهم«.
حكم هذه المطابقة صحيح واجب في غير (من) الموصولة، ومثلها "ما". فإن (من) الموصولة لها لفظ ولها معنى فلفظها أبدا لفظ المفرد المذكر، ومعناها يعم المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر ، والمؤنث.
فإذا أردت الضمير عليها في العائد فلك فيه وجهان:
أن ترده مراعيا لفظها ولفظها مذكر
﴿وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُ إِلَيۡكَۖ﴾
أو أن ترده مراعيا معناها ومعناها يكون مفردا وقد يكون مثنى وقد يكون جمعا.
﴿وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ﴾
وقوله (شباب تسامى للعلا) (شباب) هنا: خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هم (شباب)، (هم) أي: البقايا، ِ كأن سائالً سأله (من بقاياكم) فقال بقايانا شباب تسامى للعلا وكهول.
لذلك حسن هنا أن تأتي الجملة مفصولًة عن الجملة السابقة غير معطوفة عليها، وكذلك يصنعون في الجمل الواقعة في جواب سؤال مقدر.
وباب الفصل والوصل بين الجمل -اإلتيان بالعطف، وترك العطف بين الجمل- باب لطيفٌ ، دقيقٌ ، من ألطف أبواب البالغة، و)اللطف( هنا: الشيء الذي لا يتنبه له بسهولة.
أصله: )تتسامى(، فحذف إحدى التاءين تخفيفا، وهذا مطرد يف كل مضارع مبدوء بتاءين. ومنه قوله تعالى ﴿تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ﴾ ﴿كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ﴾ ﴿وَلَا تَوَلَّوۡاْ عَنۡهُ وَأَنتُمۡ تَسۡمَعُونَ﴾
ومعنى (تسامى) تنافسوا وتشاركوا في السمو، وهو العلو والارتفاع، فبنى الفعل على زنة (تفاعل)، وهي زنة تدل على المشاركة في الفعل.
فلا تقول:»يتسامى زيد« من غيرذكرمشارك في السمو، بل تقول »يسمو زيد«: إن كان وحده، وإن كان له مشارك، وأردت بيان ذلك المعنى ، تقول: "يتسامى زيد وعمرو".
وهذا منه ثناء على عموم قومه، فإنهم مشتركون في طلب السمو والرفعة، ولم ينفرد أحد بذلك دون سائرهم.
علا مؤنث (أعلى)
»الكهول«: جمع كهل، وهو من جاوز سن الشباب، وبلغ سن الرشد واالحتناك، وتمام القوة والعقل، وذلك يكون بين الثالثين والستين، وأصل اشتقاقه دال على معنى القوة والشدة.
فمن ذلك: الكاهل، وهو مجمع الكتفين أسفل الرقبة، يجمع الكتفين ويشدهما.
ومن ذلك قولهم للنبات إذا استغلظ واستوى على سوقه: اكتهل النبات، فهو مكتهل.
فإن كنا قلة، فالبقي منا تسد مسد العدد الكثير، فإن فينا شبا بٌ وكهول يسابق بعضهم بعًضا في السمو والرفعة، وما تغني الكثرة إذا كان القوم قعودا عن مدارج العال، ومعارج السمو ؟
وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ
لَنا جَبَلٌ يَحتَلُّهُ مَن نُجيرُهُ مَنيعٌ يَرُدُّ الطَرفَ وَهُوَ كَليلُ
(ما ضرنا) يجوز أن تكون (وما) استفهامية فيكون استفهاما تقريريا، استفهام التقرير: الذي يؤتى به لتقرير المخاطب بالحق وحمله على أن ينطق به بنفسه، وال يراد به االستفهام حقيقة، فال ينتظر المتكلم به جوابا.
ويجوز أن تكون (ما) نافية أي لم يضرنا.
(أنا قليل) فاعل ضرنا، أي ما ضرنا القلة
و»العزيز«: الممتنع الذي لا ينال، ولا ينال ما في حوزته، وضده الذليل.
(وجارنا عزيز) مبتدأ وخبر، فالجملة هنا حال، أي: ما ضرنا قلتنا وهذه حالتنا.
والجار عند العرب جاران: جار تجمعك وإياه قرابة النسب، وجار لا يجمعك وإياه نسب، نزل بك لتجيره من أن يضام، أو ينال منه.
معنى الجار في البيت هو بمعنى اسم المفعول "المُجار". فقوله "جارنا عزيز" أي "مُجارُنا عزيز"
وجمع الله تعالى الوصية بالجارين في قوله تعالى: ﴿وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ﴾
الجار ذي القربى هو نسيبك الذي يجمعك وإياه النسب، والجار الجنب: أال يكون من قرابته، فيجيء إلى الرجل فيسأله أن يجيره، أن يمنعه، فينزل معه، فهذا الجار.
وهذا تعريض منه بقوم المرأة، فقومك األكثرون األذلون، فيقول: أبصري كيف يكون جارنا ونحن قلة في
عزة ومنعة، وجاركم وأنتم أكثرون يف ذلة وضعف؟
فما ضرتنا قلتنا، وما أغنتكم كثرتكم
قوله (جبل) يجوز أن يريد به الجبل حقيقة؛ أي: نحن ننزل بلادنا في جبل هذه صفته.
أن يكون الجبل استعارة لمجدهم وعزهتم؛ أي: لنا عز ال يرام وال ينال، كأنه
الجبل يف مناعته وسموه، واستعارة الجبل للعزة كثير في كلام العرب
من ذلك قول حسان رضي الله عنه يرثي جعفر بن أبي طالب:
هم الجبل والناس حوله**رضام إلى طود يروق ويقهر
فجعل اإلسالم وعزته كالجبل، وجعل الناس يف التفافهم حوله كالرضام، وهي الصخور العظام، كالرضام
المحيطة بالطود، وهو الجبل العظيم،
فمن نسب الأبيات للسموأل فسر (الجبل)
هنا بالحصن الذي كان السموأل ينزله في تيماء، وكان اسم حصنه: "الأبلق" وكان مبنيا فوق جبل.
قوله (يحتله) : أي: يصير حالا فيه؛ أي: نازلا فيه، يقال: احتل المنزل يحتله احتالال، واحتل به؛ أي: نزله.
وهذا أعم من معنى االحتالل يف كالم الناس اليوم، إذ صار يف كالمهم مخصو ًصا بنزول الغاصب المحارب مستوليا متغلبا
قوله (منيع يرد الطرف):
تقول العرب:منَع يمنَع منعا، فهو مانع، وهذا فعل متعد. وتقول العرب أيضا: منُعَ يمنُعُ مناعة، فهو منيع، وهذا فعل الزم، أي اتصف بهذا.
فيجوز أن يكون قوله (منيع) من الفعل (منع) المتعدي، أي: منع جبلنا من نزل فيه يمنعه، فهو جبل مانع، ثم أراد المبالغة من (مانع) فقال: (منيع) وصيغة (فعيل) من صيغة المبالغة للفاعل، كما تقول: (رحيم) من (راحم)، و(عليم) من (عالم). فيكون المعنى: ]جبلنا مانع أشد المنع لمن رامه وأراده، أي: حاٍم يحمي من نزل فيه.
وقد تأتي صيغة (فعيل) لمعان أخر، قد تأيت لمعنى المفعول، مثل: قتيل وجريح، بمعنى: المقتول والمجروح، فيجوز أن يكون قوله (منيع) معناه: ممنوع، فجبلنا ممنوع؛ أي: نحن نمنعه، نمنع جبلنا ونحوط، فهو ممنوع، ال يصل إليه العدو.
ويجوز أن يكون (منيع) مأخوذ من (منُع يمنُع مناعة فهو منيع) وهذا الوزن من الأفعال، يدل على أن هذا الفعل من صاحبه سجية فيه، ولا يدل على أنه أحدثه وفعله.
أي "جبلنا دائم المناعة ملازم لها سجية له لا ينفك عنها في حال.
(الطرف) هو البصر. وأصله من قولهم: طرف بعينه يطرف طرفا، إذا أطبق جفنيه عند النظر.
(الكليل): المرهق المتعب من معاودة النظر كرة بعد كرة، كأنه يحاول التحقق والتثبت من الشيء، فيعاود النظر، ويرجع البصركرتين،فيرجع عاجًزا عنإدراكما أرادالنظرإليه، ويتعببصره.
ومثل (الكليل) لفظ الحسير في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ﴾
معنى البيت:
إذا كان جارنا على قلتنا عزيزا، فكيف بنا نحن أنفسنا؟
فعزنا لا يران ومحلنا لا يرتقى إليه، مانع لمن يحل فيه، ممتنع على من يرومه، أرفع من أن يسمى إليه، حتى لو أراد أحد أن يثبته نظرا وتأملا لرجع إليه بصره كليلا وعاجزا لارتفاعه وعلوه.
رَسا أَصلُهُ تَحتَ الثَرى وَسَما بِهِ إِلى النَجمِ فَرعٌ لا يُنالُ طَويلُ
رسا بمعنى ثبت. ومنه قوله تعالى ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ﴾
والرواسي جمع راسية وهي الجبال
ومعناه المتعدي "أرسيت الشيء" بمعنى أثبتها ومنه قوله تعالى ﴿وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَا﴾ وأيضا قوله تعالى ﴿يَسَۡٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ ﴾ أي يسألون متى زمان إثباتها وإيقاعها، فالمُرسى هنا اسم زمان من أرسى يرسي.
و(مَرسى) اسم مكان من رسا يرسو وهو مكان رسو السفن.
ومنه أيضا المِرساة، اسم آلة على وزن مفعلة. وهي الحديدة التي تربط بحبل وتقذف في الماء لتثبت بها السفينة.
(الثرى) أصله الأرض الرطبة المبللة. وقد يتوسع في معناه ويطلق على الأرض مطلقا
والضمير في قول الناظم (رسا أصله) عائد على الجبل. فهو يصف الجبل بأن له تحت الأرض أصل راس.
وفائدة قوله (تحت الثرى) مع أنه معلوم أن أصل الجبل لا يرسو إلى تحت الأرض، هو توكيد للرسو والثبات وإمعان منه في توصيف رسوخ عزهم وتمكنه.
هذا كما في قوله تعالى ﴿فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ﴾ والسقف لا يخر إلا من فوق لكن في هذه الزيادة تصويرا للحال حتى كأنك تسمع دوي سقوط السقف من فوق.
وكقوله تعالى ﴿مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ ﴾ ولا يكون القلب إلا في الجوف.
ومن هذا قول الناس » رأيته بعيني«، ولا يقولون ذلك إلا في ما كانت رؤيته مستنكرة عادة لغرابة أو استبعاد.
أو أن يكون ذلك دفعا للمجاز، فقد يظن السامع أن غيره رأه، فأبلغه فيقول رأيته تجوزا، فيزيد بعيني لدفع احتمال المجاز.
(سما) أي ارتفع.
وكل عال مطل فهو سماء، لذلك قد تطلق العرب السماء أيضا على السحاب والمطر وسقف البيت فكل شيء من ذلك عال مطل.
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لۡيَقۡطَعۡ فَلۡيَنظُرۡ هَلۡ يُذۡهِبَنَّ كَيۡدُهُۥ مَا يَغِيظُ﴾
قال أهل التفسير أن معنى (سبب إلى السماء) هو حبل إلى السقف.
من كان من الَوَس المسلمين يظن ألا ينصر الله محمد ﷺ، ودخل يف نفسه يأس وقنوط مما يرى، وخشي أن يخذل الله نبيه ﷺ ، واغتاظ لأجل ذلك؛ فليربط حبل في سقف بيته، ثم ليختنق به حتى يموت، فلينظر: هل يذهبن فعله ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟
(النجم) هنا المقصود به الثريا. ف(أل) فيه للعهد، تشير إلى نجم معهود في الذهن وهو نجم الثريا.
فالعرب إذا ذكرت (النجم) بإطلاق فهي تريد الثريا غالبا
وبه فسر قوله تعالى ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ﴾
وكذلك تفعل العرب يف أسماء األجناس إذا كثر استعمالها لفرد بعينه من بين هذا الجنس، فذكر الثريا عندهم كثير غالب من بين النجوم، حتى غلبوا اسم النجم عليه.
من ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ﴾
، فالمراد: البيت الحرام، وإن كانت لفظة (البيت) تطلق عليه وعلى غيره، لكن هذا اللفظ غلب على هذا الفرد من بين أفراد جنسه.
(كذلك الكتاب دلالة على كتاب سيبويه، فغلب على سائر أفراد جنسه).
ويجوز أن تكون (أل) هي للجنس. واللفظ المفرد إذا أريد به الجنس فمعناه معنى الجمع وإن كان لفظه لفظ المفرد.
﴿وَٱلۡعَصۡرِ ۞ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ ۞ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾
أفرد لفظ الإنسان ثم استثنى منه فقال ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ ، و(الإنسان) مفرد في لفظه، ولولا أنه أريد به الجنس لما صح منه الاستثناء.
(الفرع) أعلى الشيء، ومن ذلك قولهم جبل فارع أي عال.
وكان لحسان بن ثابت رضي الله عنه حصن اسمه الفارع.
وتقول العرب (فَرَعَ رأسه بالسيف) إذا علاه وضربه.
وأما قول الناس: (الفرع)، ويريدون به ما تفرع من األصل، أي ما خرج منه، وما كان فرًدا من جنس أو جزءا من كل فالظاهر أنه سميت بذلك تشبيها بفروع الجبل. ففروع الجبل، وهي قممه وأعاليه، تكون متعددة غير منفردة، فكذلك ما تعدد من جنس وما تجزأ من كل.
فاعل (سما) هو (فرع)، أي سما بهذا الجبل فرع، وأرد به (فرعه) أي فرع الجبل لكنه نَكَّرَ فقال (فرع) بالتنكير. والتنكير هنا يوقع في النفس هولا وتفخيما لهذا الفرع
فعرب بالفعل الماضي ليدل على قدم مجدهم وعزهم، وأنه مجد موروث، وعذ قديم غير حادث
(لا ينال) أي لا يؤخذ ولا يصاب. وهذه الجملة نعت للفرع. أي فرع غير منال، و(طويل) صفة ثانية له.
حسن بيته بمقابلة الأضداد فقابل (سما) ب(رسا)، و(أصله) ب(فرع) و(تحت الثرى) ب(إلى النجم)
والشاعر هنا بعد أن ذكر في البيت السابق ما لهم من مجد ، عاد، وزاد في أوصاف الجبل المشبه به. وهذه الزيادات في وصف المشبه به -وهو )الجبل(- عائدة بالالزم على أوصاف المشبه، وهو )عزهم(، وفي ذلك تقرير وتوكيد.
يقول: إن أردت أن تنال بناءنا، فأنت تدفع عز لا يدفع كأنك تدفع جبال ثهلان ذا الهضبات، فهل تراه يتحلحل إن دفعته؟ وكما أن يف أصل جبلنا وعزنا ثبات ورسوخ تحت الثرى، فإن في فرعه طولا وعلوا وبعد منال، فمن أين لنا الذلة وهذا أصلنا وذالك فرعنا.
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً
إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
الفعل "رأى" له معنيان في اللغة.
إن كان بمعنى رؤية البصر فهو ينصب مفعولا واحدا، فإذا أتى بعد مفعوله منصوب ثان فهو ينتصب على الحال "رأيت زيدا واقفا".
وإن كانت "رأى" بمعنى الاعتقاد والظن فإنها تسمى (رأى القلبية) وهي تنصب مفعولين.
"القتل سُبةٌ" مبتدأ وخبر وهو لازم اعتقاد المرأة المعيرة وقولها (القلة ذلة).
السُبة بالضم هي الخصلة التي يُسب بها المرء، والسَّبَّة بالفتح = اسم المرة
(إذا ما رأته عامر وسلول)
الهاء في رأته مفعول أول عائد على "القتل".
والمفعول الثاني العائد على سبة محذوف اختصارا لدلالة الكلام عليه.
عامر وسلول هما قبيلتان، بنو عامر بن صعصعة وبنو مرة بن صعصعة.
وبنو صعصعة هم من هوازن من قيس عيلان من معد بن عدنان.
هذا البيت خاصة ينبغي أن ينسب إلى الحارثي عبد الملك فهو أولى به من السموأل.
فأرض السموأل شمالية، وليس بين قوم السموأل وبين هوازن جوار ولا تعرف بينهم أخبار وحروب.
أما هوازن ومذحج فالحروب بينهم سجال.
أنث فعل (رأته) مع الفاعل المذكر (عامر) مراعاة لمعنى القبيلة.
وكذلك تفعل العرب في أسماء القبائل، فتارة يحملونها على معنى التذكير والجمع. وتارة يؤنثونها على معنى القبيلة كما في البيت.
وجاء التنزيل بالوجهين:
﴿كَذَّبَتۡ ثَمُودُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ﴾ وثمود اسم رجل تنتسب إليه هذه القبيلة.
وقال تعالى في موضع آخر: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيۡنَٰهُمۡ فَٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡعَمَىٰ عَلَى ٱلۡهُدَىٰ﴾
وعلى هذا، إذا أنثت على معنى القبيلة فلك أن تمنع الاسم من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه صار علما مؤنثا في معنى القبيلة. كما لك أن تصرفه حملا على أصله.
فمعنى البيت: "إن من عزنا ألا نعد القتل سبة إذا كان قومك يعدونه كذاك. فلأننا نعد القتل شرفا بادرنا إليه وصبرنا عليه فقل عددنا، ورأيتموه سبة ففررتم عنه وجزعتم منه فكثرتم.
ذكر عامر فيه زيادة ذم لسلول إذ كانت سلول ترمى بالضعف والضعة عند العرب.
وكانت عامر تدفع عن سلول ما ينزل بها، وسلول تابعة لها، فكأنه أراد أن يمعن يف الوضع من سلول، والحط من شرفهم؛ فقدم عليهم ذكر من به حمايتهم وقوتهم، وإذا كان المتبوع يرى القتل سبة فالتابع أحق وأولى.
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لَنا وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
(حب الموت) يحتمل معنيين
المعنى الأول إذا اعتبرنا (الموت) مفعولا والفاعل هو قوم الشاعر.
أي: يقرب آجالنا لنا أننا نحب الموت ونتمناه.
والمعنى الثاني إذا اعتبرنا (الموت) فاعلا لا مفعولا.
فيكون المعنى: يقرب آجالنا أن الموتَ يحبنا.
وهذا المعنى أحسن من التقدير الأول وأمدح لهم، إذ جعل الموت هو الراغب فيهم والطالب لهم لشرفهم ومجدهم.
أرى الموت يعتامُ الكرام ويصطفي ** عقيلة مال الفاحش المتشدد
ولئن تعهدك البلاء بنفسه * فلقيته: إن الكريم ليبتلى
أبى القتل إلا آل صمة، إنهم * أبوا غيره، والقدر يجري إلى القدر
الأجل هو غاية الوقت المقدر للشيء
هذا البيت تتميم لمعنى البيت السابق وتقرير له. وقابل الصدر بالصدر فخرا، والعجز بالعجز هجاء.
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ
وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
نكر (سيد) بعد نفي، فأفاد هذا الأسلوب العموم.
وفيه إشارة أن السيادة فيهم غير منحصرة برجل ولا منقطعة وافرة موروثة.
(حتف أنفه) أي مات على فراشه من غير قتل.
والحتف هو الموت، يقال "حتفه الله، يحتفه حتفا" أي أماته.
فقولهم (مات حتف أنفه) مفعول مطلق؛ لأن الحتف مرادف للموت، ويأتي المفعول المطلق بلفظ مرادف للفعل، يجوز أن تقول: جلست جلوسا، وتقول: جلست قعودا، ووقفت وقوفا، ووقفت قياما.
ولما أضيف المفعول المطلق إلى ال(الأنف)، أفاد المفعول المطلق معنى بيان نوع الفعل.
والميت على هذه الصفة لم تخرج نفسه من طعنة أو من ضربة أو شجة، بل خرجت من أنفه بتنفسه وهو على فراشه. فعبر عن ذلك بإضافة الموت إلى الأنف.
للعرب ألفاظ لإفادة نفس هذا المعنى: اعتبط فلان، ومات عبطة إذا مات شابا سليما من غير علة ومن غير قتل.
وذكر جماعة من العلماء أن هذا التركيب لم يسمع قبل النبي ﷺ.
روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عتيك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: مَن خَرَجَ مُجاهِدًا في سَبيلِ اللهِ -ثُمَّ جَمَعَ أصابِعَه الثَّلاثةَ، ثُمَّ قالَ: وأين المُجاهِدونَ؟- فخَرَّ عن دابَّتِه فماتَ، فقد وَقَعَ أجْرُه على اللهِ، أو لَسَعَتْه دابَّةٌ فماتَ فقد وَقَعَ أجْرُه على اللهِ، ومَن ماتَ حَتْفَ أنْفِه فقد وَقَعَ أجْرُه على اللهِ، ومَن قُتِلَ قَعْصًا فقد اسْتَوجَبَ المآبَ
روى ابن دريد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما سمعت كلمة عربية من العرب -أي كلمة فصيحة- إلى وقد سمعتها من رسول الله ﷺ، وسمعته يقول "مات حتف أنفه" ةما سمعتها من عربي قبله.
وهذا هو الراجح في نسبتها.
وهذا مما يرجح أن هذه القصيدة ليست للسموأل لأنه جاهلي قبل زمن النبي ﷺ، أما الحارثي فهو عباسي مات في زمن الرشيد.
يقال (طل القتيل)، وطُل دمه فهو مطلول إذا قتل فلم يثأر له قومه فذهب دمه هدرا. إما لهوان المقتول على قومه أو لهوان قومه أنفسهم وعجزهم عن الثأر
الفصل بالظرف (حيث كان) أي: لا فرق بين مكان ومكان في أخذنا بثأر قتيلنا. فلسنا ممن يعز في مكان ويذل في آخر أو ممن يقدر في مكان ويعجز في آخر.
وهذا البيت يدفع وهم من يتوهم أن كثرة الوت فيهم لأنهم مغلوبون مقتَّلون عاجزون عن أن يدرؤوا العدو عن أنفسهم، مستسلمون للقتل من غير مدافعة ولا مصابرة.
بل السيد منهم يخاطر بنفسه عن حسب قومه وما سيادته بمانعته أن يباشر القتال بنفسه بل بهذه ساد.
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ
(الظبات) جمع ظبة وهي الحد.
وكيف تسيل النفس؟
من معاني النفس في كلام العرب "الدم"، فيقال "سالت نفسه" إذا "سال دمه".
ومن ذلك قول العرب "نفست المرأة فهي نفاس ونفساء" إذا ولدت أو حاضت فسال دمها.
ويروي أهل الحديث عن إبراهيم النخعي، وهو من كبار التابعين، عربي فصيح، أنه قال: "كل شيء ليست له نفس سائلة ، فإنه لا ينجس الماء إذا مات فيه".
فقوله "نفس سائلة" أي ليس له دم إذا قتل.
ووجه آخر، أن تكون النفس على حقيقتها لكنه استعار لخروجها من جسده "السيلان".
فجعل نفوسهم في أجسادهم بمنزلة الماء ونحوه في القِربة. فإذا ضربوا بالسيوف خرجت نفوسهم خروج السائل من قربته، خروج الماء من القربة
ومن هذا قول العرب لمن يموت: "صفر وطابه". صفر أي خلا، والوطاب: القِربة.
أي خلا جسده من روحه خلو القربة مما فيها من ماء أو لبن.
العرب تفعل ذلك إذا أرادت وصف ما لا قوة له في التصور، فإنها تستحسن تشبيهه بما له قوة في التصور ليستقر معناه في نفس السامع.
فلما ذكر الشاعر في البيت السابق أنهم لا يموتون في فرشهم ميتة العاجز، ذكر هنا كيف يكون موتهم. فقال أنه لا يستلب نفوسنا من مكامنها غير السيوف
صَفَونا فَلَم نَكدُر وَأَخلَصَ سِرَّنا إِناثٌ أَطابَت حَملَنا وَفُحولُ عَلَونا إِلى خَيرِ الظُهورِ وَحَطَّنا لِوَقتٍ إِلى خَيرِ البُطونِ نُزولُ
كدر الماء يكدر كدرا.
وأراد هنا صفاء النسب، ويكون من جهتين
من جهة عفاف الأمهات وحصانتهن
ومن جهة تخير الآباء لأمهاتهم من ذوات النسب والحسب.
فلسن ممن تذم بلؤم قبيلتها إن كانت من العرب أو تكون من قبيلة في حسبها ضعة أو أن تكون من غير العرب...
وبهاتين الجهتين افتخر عمر ابن العاص رضي الله عنه لما قال: "والله ما تأبطتني الإماء ولا حملتني البغايا"
(أخلص سرنا)
الإخلاص تخليص الشيء مما يشوبه ويخالطه.
والسر ضد الجهر، وتجعله العرب في مواضع كناية عن الجماع والنكاح وهو المراد هنا.
وبه فسر قوله تعالى: ﴿وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أي نكاحا
خير الظهور = أصلاب الآباء
خير البطون = بطون الأمهات
واللام في قوله (لوقت) هي بمعنى (بعد وقت).
كما في قوله تعالى: أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمۡسِ أي بعد دلوكها
وقوله ﷺ: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"
والوقت المقصود في البيت هو بعد طهرها من الحيض، والعرب تزعم أن خير الحمل ما كان عقب تمام الطهر.
طاب نسبهم من طرفيه، فأخلصه لنا أمهاتنا بطيب حملهن وسلامته من خبث الخيانة وخبث الرعاية، وآباؤهم الفحول المبرؤون من المساوئ وضعفة الرجال وهجنائهم.
فَنَحنُ كَماءِ المُزنِ ما في نِصابِنا كَهامٌ وَلا فينا يُعَدُّ بَخيلُ
معنى أول
المزن: هو السحاب.
النصاب: الأصل، فأصل الشيء نصابه.
الكهام: الرجل الجبان القاعد عن الحرب وقالوا: رجل كهام، وكهم الرجل؛ إذا قاعد عن النصرة وجبن.
معنى ثاني
أي لا يخرج من أصلابنا ومن أصلنا من هذه أوصافه
النصاب هو مقبض السيف.
والكهام من السيوف: السيف الكليل.
فهو يريد أن يقول: لا يخرج من أصلنا فرع ذليل، فإذا كان من السيوف ما يخرج من نصاهبا سيف كهام كليل؛ فنحن نصاب سيفنا لا يخرج منه سيف كهام كليل، أي: لا يخرج من أصلنا، رجل قاعد ذليل كالسيف الكهام. وهذا أحسن في مذاهب الشعراء.
ماء المزن أخلص الماء وأصفاه. ينزل خالصا طهورا، فلا يخرج من نصابنا فرع يعيبنا ويسوؤنا.
فالشجاعة والكرم ذروة أخالق العرب، وغاية مطلب أشرافهم، ولذلك خصهما بأن نفي عن قومه ضدهما وجعلهما شعارا لصفاء نسبهم وخلوصه.
وقرن بين الجبن والبخل، وكثيرا ما يقرتنان، كما تقرتن الشجاعة بالكرم، إذ كالهما إمساك وإنفاق.
لولا المشقة ساد الناس كلهم
فالجود يفقر والإقدام قتال
وَنُنكِرُ إِن شِئنا عَلى الناسِ قَولَهُم وَلا يُنكِرونَ القَولَ حينَ نَقولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
وذكر هنا سيادهتم وعزهتم، فهم -على قلتهم - لهم الكلمة النافذة والقول الذي لا يرد، وهم إن رأوا في قول غيرهم ما لا يستحسنونه ردوه إن شاءوا لا يمنعهم مانع.
خلا: مات
وأصل الخلو ضد الامتلاء، وبموت الرجل يخلو مكانه. وكأن الأصل في قولهم: خلا
الرجل، أصله خلا مكان الرجل.
وكذلك قالوا: إذامات الرجل خلَّى مكانه.
ولعله آثر لفظة خلا على غيرها مما يفيد معنى الموت، ليوطئ لمعنى خالفة بعضهم بعًضا في السيادة، فالمكان يخلو من هذا السيد فيملؤه بعده خليفته.
قام سيد: بالتنكير؛ أي: قام سيد غير السيد السابق الذي خال، واللفظ المنكر إذا كرر فالأصل والأغلب أن يكون غير الأول.
ففي قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرًا ۞ إِنَّ مَعَ ٱلۡعُسۡرِ يُسۡرٗا﴾
فتكرر العسر معرفا فهو عسر واحد، واليسر تكرر منكرا فاليسر يسران.
وروى الطبري في تفسيره بأسانيده إلى النبي ﷺ أنه لما نزلت هذه اآلية قال: "أبشروا! أتاكم اليسر، لن يغلب عسر يسرين"
قؤول: مبالغة من "فعول".
فإذا خال موضع فينا من سيد قام مقامه سيد آخر يحذو حذوه، وحذو أسالفنا الكرام، فيقول مثل قولهم، ويفعل مثل فعلهم،
وَما أُخمِدَت نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ وَلا ذَمَّنا في النازِلينَ نَزيلُ
الطارق هو الزائر الذي يأتي ليلا.
والنجم الثاقب في القرآن سمي طارقا لأنه يظهر ليلا.
النزيل هو النازل.
والنزول أعم من الطروق، فهو في أي وقت كان. فيكون هذا من عطف العام على الخاص. فكل طارق نازل وليس كل نازل طارق.
وقوله (في النازلين) حال من (نزيل). أي ولا ذمنا نزيل حال كونه في النازلين. أي: إذا اجتمع النازلون، وتذاكروا نزولهم عند غيرهم، وكيف تلقاهم من نزلوا عندهم، لا تجد النازل بنا يذمنا إذا ذكرنا.
وقدم ذكر الطروق أولا قبل عموم النزول لأن حال الضيف حينئذ في الطروق أفظع، وحاجته أشد، ولأن الرقاد حينئذ أطيب. فالعيون غافية، والناس نوم، فلا يقوم بحق الضيف الطارق في مثل هذه الحال إلا متجرد للكرم، مشمر فيه، مؤثر مشقة القيام بحق ابن السبيل على لذة رقاده.
بلغ هبم كرمهم أهنم ال ينتظرون تسقُّط الضيفان عليهم فجأة وال ينتظرون قصدهم إياهم عرضا وإنما يوقدون نيراهنم الليل كله، ليجيء إليهم الطارق قصدا دون غيرهم. وهذا معنى قوله (وَما أُخمِدَت نارٌ لَنا دونَ طارِقٍ)
وهذه النار التي توقد ليستدل هبا المسافر والضيف تسميها العرب: نار القِرى، والقِرى: طعم الضيف.
ومن جميل سجعات الحر ري في (المقامات) قال: فأقبل فتى أحسن من نار القِرى في عين ابن السرى
وَأَيّامُنا مَشهورَةٌ في عَدُوِّنا لَها غُرَرٌ مَعلومَةٌ وَحُجولُ
"الأيام" : جمع يوم، و"اليوم" في الأصل: من طلوع الشمس إلى غروهبا، ولكنه أراد هنا بالأيام: الحروب والوقائع، فالعرب تسمي الحرب والوقعة: يوما.
وإنما خصوا األيام دون الليالي يف الوقائع والحروب؛ ألن غالب حروهبم تكون نهارا، لذلك يقولون في الغارة والغزو: صبحهم الجيش، يسمونه مصبِّحًا.
» الغرر «: جمع غرة، وهي البياض في جبهة الفرس.
»الحجول «: جمع حجل، وهو البياض في قوائم الفرس.
وهذا لا يتحقق إلا في أفراد قليلة من بين الخيل الكثيرة، وإذا كان الفرس أغر محجال، وخالف لون جبهته وقوائمه لون سائر جسده، أسرَع وقوع العين عليه، وأسرَع تمييزه من بين الخيل، ولم يشتبه بغيره.
فصاروا يعبرون عن الشيء المتميز عن غيره بأن له غُرَرًا وحُجُولا.
فتوسعت في ذلك العرب، فصارت تقول للشيء المشهور تلحظه الأبصار، ولا يشتبه بغيره: »هو أغر
محجل«، وإن لم يكن كذلك حقيقة.
ومن ذلك قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتي الحَوْضَ، وَأَنا أَذُودُ النّاسَ عنْه، كما يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عن إِبِلِهِ قالوا يا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنا؟ قالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيما ليسَتْ لأَحَدٍ غيرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوُضُوءِ"
فأيامنا مشهورة معروفة،، يقر بها العدو قبل الصديق ثم هي ليست كأيام غيرنا، بل تنماز عنها، ولا تشتبه بها، أيام مشهورة لها غرر وحجول، لما يقع لنا فيها من حسن البلاء الذي لا يقع من غيرنا.
وَأَسيافُنا في كُلِّ شَرقٍ وَمَغرِبٍ بِها مِن قِراعِ الدارِعينَ فُلولُ
(أسيافنا) مبتدأ، وخبره (في كل غرب ومشرق)، أي أسيافنا كائنة في كل غرب وشرق أي كائنة في كل الجهات.
(القراع):مصدرالفعل (قارع،يقارع)، أي:قاتل.
والفعل منه على وزن (فاعل) الدال على المشاركة. فهم يقرعون عدوهم وعدوهم يقرعهم.
وهذا يفيد أنهم لا يقاتلون قوما جبناء، لا يقاتلون قوما لا يدفعون عن أنفسهم، بل يقاتلون قوما أشداء.
أي من عزنا أنا نغزو من قرب وبعد ولا يحترز منا أحد.
ولا بد من تقدير مضاف محذوف؛ أي: و آثار سيوفنا في كل غرب ومشرق، فلا يصح أن يريد الأسياف بعينها.
ومثل هذا كثير يفي كالم العرب، يحذفون المضاف اختصارا، ويقيمون المضاف إليه مقامه، ويكلون فهم المحذوف إلى وضوح السياق، وفطنة المتكلم.
فالعربي يجرتئ على اللفظ إذاكان على ثقةمن بيان المعنى ووضوحه، وكان أي ًضا على ثقةمع ذلك من تبين السامع وفطنته
كما في قوله تعالى: ﴿وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ﴾
العجل لا يشرب في القلب؛ والتقدير "أشربوا في قلوبهم حب العجل"
الدارعين: جمع دارع وهو الذي يلبس الدرع وضده الحاسر وهو الذي يقاتل من غير ذرع.
والعرب تتمدح بلبس الدروع، وتفتخر باتخاذها، ولا تعد التوقي بها في الحرب من الضعف أو الخوف، فليس الحاسر بأحسن من الدارع، بل يعدون اتخاذ الدرع من الحزم والحذر الممدوح.
وتجد ذكر التمدح بالدروع واتخاذها كثير في أشعارهم.
(الفلول): جمع فلَّ، وهو الثلم، يكون في حد السيف من تكرار الضرب به وشدته.
يقول: وليس ما ذكرته من شهرة أيامنا، وأخبار شجاعتنا، دعوى لا دليل عليها، بل هذه أسيافنا -التي قاتلنا بها من قرب ومن بعد من القبائل شرًقا ومغربا- آثارها تشهد لنا بما فيها من فلول، وإنما فلَّها قراعنا لقوم أشداء ذوي بأس
وهنا يمدحهم مدحا زائًدا، فإن الجبان لا فلول في سيفه؛ لأنه لا يقاتل به، فأنى لسيفه أن يفل.
"لا عيب فيهم غير أن سيوفهمم بهن فلول من قراع الكتائب"
مدحهم بما يشبه الذم. وهذا ضرب من ضروب البديع يف كالم العرب، يسميه علماء البديع: (توكيد المدح بما يشبه الذم).
مُعَوَّدَةٌ أَلّا تُسَلَّ نِصالُها فَتُغمَدَ حَتّى يُستَباحَ قَبيلُ
سَلي إِن جَهِلتِ الناسَ عَنّا وَعَنهُمُ فَلَيسَ سَواءً عالِمٌ وَجَهولُ
فَإِنَّ بَني الرَيّانِ قَطبٌ لِقَومِهِم تَدورُ رَحاهُم حَولَهُم وَتَجولُ
(معودة) حال، فأسيافهم تقارعهم يف حال كونها معودة على ما سيأتي ذكره.
ويجوز رفع معودة على أنه خبر لمبتدأ محذوف.
(تُسلَّ) أي تخرج من أغمادها.
(نصالها) : جمع نصل، وهو حديدة السيف.
(يستباح) أي يكون مباحا
(القبيل) الجماعة
يقول عودنا أسيافنا على أمر لزمها، هو أننا إذا سللناها فإننا ال نعيدها إلى أغمادها قبل أن نستبيح قبيال من أعدائنا، وهذامن حسن بالئنا وظفرنا، فال نعود بعد سلِّ أسيافنا خائبين.
(سلي): أصله )اسألي(، فحذفت الهمزة الثانية تخفيفا، وحذفها في مثل هذا موقوف لا قياس فيه، موقوفعلى السماع
»بنو الديان« بطن من بني الحارث بن كعب، ومن أشراف العرب.
وهذا البيت لا شك في أنه لعبد الملك الحارثي، ولا يكون للسموأل البتة. فإن بني الديان من بني الحارث، والسموأل ليس من بني الحادث.
والقطب: حديدة تكون بين حجري الرحى، فلا يدور الرحى إلا بها، ولذلك يقولون لكل ما كان معتمًدا لشيء لا يقوم الشيء إلا به، يقول: هو قطب الرحى.