Please enable JavaScript.
Coggle requires JavaScript to display documents.
مسار بناء الحقوق الأساسية في المنظومة القانونية التونسية - Coggle Diagram
مسار بناء الحقوق الأساسية في المنظومة القانونية التونسية
التجذّر التاريخي للحقوق
والحريات في تونس
لقد تميزت تونس عن باقي الدول العربية بتبني النظام السياسي فيها مند أواسط القرن التاسع عشر الفكر إصلاحي، نابعا بالأساس من تيار فكري داخل جامعة الزيتونة ومتأثرا في ذلك، إلى حد ما بالنموذج الأوروبي.
وقد أفرز ذلك صدور عدة نصوص قانونية مكرسة للحقوق الأساسية للأفراد، إضافة إلى بروز مؤسسات سياسية غريبة من حيث طبيعتها عن المجتمع التونسي التقليدي في ذلك الوقت. فكانت تونس بذلك أول دولة عربية، ومن أوائل الدول في العالم تقوم بإلغاء الرق، بموجب أمر أحمد باي المؤرخ في 26 جانفي 1846، والذي أصدره بناءا على فتوی صادرة منذ 1842 عن الشيخ ابراهيم الرياحي، باش مفتي المالكية، وعاضده فيها الشيخ محمد بيرم الرابع، مفتي الأحناف.
وقد اتفق المؤرخون على كونها أول فتوى في العالم الإسلامي تقر صراحة بتحريم الرق، أي قبل إلغائه في المستعمرات الفرنسية (1848) والهولندية (1860) وفي عموم الولايات المتحدة الأمريكية (1865).
عهد الأمان
تونس كانت كذلك أول دولة عربية تصدر إعلانا لحقوق الانسان وهو ما سمي بعهد الأمان الذي أصدره المشير محمد باشا باي في 10 سبتمبر 1857 والذي احتوى على 11 فصلا کرست في مجملها مبدأ المساواة بين سكان المملكة على اختلاف الأديان والألسنة والألوان،
إضافة إلى تكريس حرية المعتقد وحرية التجارة وحرية الإقامة والعمل والتملك لرعايا الدول الأجانب، وتمكين هؤلاء من التقاضي أمام محاكم خاصة في القضايا الجنائية والتجارية تضمن تمثيليتهم في تركيبتها.
تميزت تونس كذلك بكونها أول دولة عربية تضع دستور لقيد نظام الحكم فيها وهو دستور 26 أفريل 1861، الذي إضافة لتنظيمه للسلط السياسية داخل الدولة وتأكيده للمبادئ الواردة في عهد الأمان، فقد تضمن في بابه الثاني عشر إعلانا لحقوق أهل المملكة وواجباتهم، تضمن تكريسا للحق في الأمن على النفس والعرض و المال، و إقرارا لمبدأ المساواة أمام القانون، و تكريسا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وحرية المعتقد لغير المسلمين، وحرية الصناعة، والتجارة.
كما تضمن الدستور في بابه الثالث عشر إعلانا لحقوق ورعايا الدول الأجانب وواجباتهم، وقع التنصيص فيه خاصة على ضمان الأمن والأمان لهم في دينهم وعباداتهم"، إضافة إلى حرية الصناعة"، والتجارة
لكن على أهميتها النظرية، فإن هذه النصوص لم تكن نتيجة حركة فكرية وشعبية عميقة داخل المجتمع التونسي، بل كانت وليدة نخبة فكرية آمنت بالإصلاح ولكنها كانت في قطيعة مع الشعب الذي كان يرزح تحت نير الفقر والأمية والبؤس. فكانت هذه الإصلاحات مسقطة على واقع تونسي غير متهئ لاستيعابها وساهم تدخل الدول الأوروبية وضغط قناصلها بتونس في إفرازها لنتائج معاكسة لرغبة المصلحين.
فعوض أن تؤدي إلى إخضاع نظام الحكم لقواعد مضبوطة وضمان حقوق الرعايا إزاء الملك، فإنها فتحت الباب على مصراعيه للهيمنة الاقتصادية الأجنبية وذلك بالإطاحة بما تبقى من موانع لهذه الهيمنة وهي عدم إمكانية حصول الأجانب على الملكية العقارية وخضوع الذميين للقضاء الشرعي.
فكان عهد الأمان بذلك أقرب ما يكون إلى إعلان لحقوق رعايا الدول الأجانب أكثر منه إعلانا الحقوق الرعايا التونسيين.
وقد كان لمحدودية الوقع الشعبي لهذه الإصلاحات وكلفتها الجبائية الباهظة على الشعب، دورا في الإسراع بانهيارها بمناسبة أول انتفاضة شعبية عرفتها تونس في ذلك الوقت وهي ثورة على بن غذاهم سنة 1864 التي كان من بين الشعارات التي رفعتها "كفى دستورا".
لكن توقيف العمل بدستور 1861 من طرف محمد الصادق باي بموجب أمر 30 أفريل 1864، لم يمنع النخبة التونسية من مواصلة تبني الفكر الدستوري كأساس للإصلاح السياسي. فلا غرابة إذا في أن يلتصق لفظ الدستور بتسمية أهم الأحزاب الوطنية التي قادت المعركة ضد الاحتلال الفرنسي، وهي الحزب الحر الدستوري التونسي الذي تأسس في 1920والحزب الحر الدستوري التونسي الجديد الذي انشق عنه في 1934 وكلاهما يعتبر الوريث الشرعي للتيار الإصلاحي الذي عرفته تونس في القرن التاسع عشر، واكتسب الدستور بذلك بعدا رمزيا هاما كأساس للتحرر والانعتاق من الاستعمار.
لكن مرة أخرى لم تتحرر هذه التيارات الفكرية والسياسية من النخبوية وبقيت سجينة منابر ضيقة وأخفقت في التحول إلى حركة شعبية عميقة تتبنى هذه القيم وتطالب بتكريسها
فالشعب حينها وصل إلى درجة من الذل حتى أن مطلبه لم يكن الدستور بل كان السلامة والعيش في طمأنينة في العائلة فقد كان متطلعا إلى العدالة وإلى السلامة قبل كل شيء، لكن لم يكن يدور بخلد أحد مسألة نظام الحكم ملكية أو جمهورية كان هذا شيئا بعيدا جدا.
غياب هذا الأساس الشعبي والاجتماعي، لفكرة الدستور كضامن للحقوق والحريات الأساسية، الفردية منها والجماعية، هو الذي أدى إلى تهميش هذه الحقوق في دولة الاستقلال خصوصا على مستوى التكريس الواقعي. فالأولوية لم تكن لبناء منظومة متطورة وشاملة لهذه الحقوق بل كانت لبناء الدولة ومؤسساتها، دولة قوية قادرة على فرض نسق اجتماعي معين على مجتمع تقليدي يغلب عليه الفقر والأمية. ولعل هذا ما يفسر تراجع مكانة الحقوق الأساسية في دستور غرة جوان 1959.
دستور غرة
جوان 1959
انحسار الحقوق والحريات
إن مشروع الملكية الدستورية المؤرخ في 09جانفي 1957، كان الأكثر تطورا واكتمالا في تصوره لحقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية.
بعد إعلان الجمهورية، تم إعداد مشروع جديد للدستور في 1958 يأخذ بعين الاعتبار تغير النظام السياسي للدولة. وقد شهد نطاق الحقوق الأساسية انحسارا في هذا المشروع مقارنة بمسودة 1957.
فعلى مستوى الرمزية، تم التراجع على تخصيص باب خاص للحقوق والحريات الأساسية وتم تعويم هذه الأخيرة ضمن الأحكام العامة للدستور. وانخفض عدد الفصول المخصصة للحقوق الأساسية من 23 إلى 15، وأصبحت الحرية مضمونة بعد أن كانت مقدسة، وغاب التنصيص على حق المواطن في الالتجاء للقضاء لحماية حقوقه الأساسية المعترف بها في الدستور، بما يعنيه ذلك من غياب أليات الحماية والتكريس الفعلي لهذه الحقوق وعدم تجاوزها إطار التنصيص النظري.
وفيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية غابت الإشارة إلى العدالة الاجتماعية وإلى حماية الأسرة بما هي العنصر الطبيعي والأساسي للمجتمع. كما تم التراجع عن دسترة مبدأ التساوي في الأجور عند تساوي العمل. في المقابل تم التنصيص على مبدأ مجانية التعليم.
*وقد تواصل انحسار مجال الحقوق الأساسية مع اعتماد الصيغة النهائية لدستور 1959. فانخفض عدد الفصول المخصصة لها مرة أخرى من 15 إلى 11. وعلى مستوى الرمزية، خلا نص الدستور المعتمد من كل إشارة لا بالتصريح ولا بالتلميح إلى عدم جواز التعذيب وإهانة الذات البشرية. أما الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد غابت تماما في نص الدستور وذلك باستثناء إشارة عرضية إلى الحق النقابي صلب الفصل 8 منه.
هذا الانحسار لمجال الحقوق الأساسية والذي لم يتجاوز إطار التنصيص النظري، المنقوص والمبتور من آليات الحماية الفعلية، لا يمكن أن يفهم إلا في سياق عام قائم على تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على النظام السياسي المشكل في ظل دستور 1959. نظام رئاسي غير متوازن موضوع على مقاس رئيس السلطة التنفيذية الرئيس بورقيبة ومن بعده بن علي.
لكن المفارقة الغريبة في التجربة التونسية هو كون الحقوق الأساسية التي وقع تهميشها دستوريا، وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالأساس، كانت هي الأكثر تكريسا من طرف المشرع التونسي على أرض الواقع، في حين أن الحقوق المنصوص عليها دستوريا، والتي تغلب عليها الصبغة المدنية والسياسية، كانت الأقل تفعيلا.
فمنذ السنوات الأولى للاستقلال، وحتى قبل إصدار دستور غرة جوان 1959 صدرت عدة نصوص تشريعية مكرسة لحقوق ذات صيغة اقتصادية واجتماعية نذكر منها على وجه الخصوص حقوق المرأة والحق في التعليم ثم تلتها أخرى منظمة للتغطية الاجتماعية والصحة والسكن الاجتماعي ثم في وقت لاحق صدرت تشريعات متعلقة بحماية حقوق الطفل والمعاقين.
الطابع الزجري
أما الحقوق المدنية والسياسية المنصوص عليها في الدستور فقد تم إفراغها من محتواها بموجب نصوص تشريعية جعلت من الحرية إستثناءا ومن تقييدها مبدأ هذا بالإضافة إلى تكريسها لمنهج "التعامل الأمني" مع هذا الصنف من الحقوق وذلك بإسناد تنظيم هذه الحريات الأساسية إلى وزارة الداخلية! فسواء تعلق الأمر بتكوين الجمعيات أو بالطباعة والصحافة والنشر أو بعقد الاجتماعات والتظاهر السلمي أو بتكوين الأحزاب السياسية فان الجهة الادارية الوحيدة المخولة إسناد الترخيص أو تلقي الايداع القانوني أو التصريح هي مصالح وزارة الداخلية سواء المركزية منها أو الجهوية.
وقد غلب على هذه النصوص الطابع الزجري، فعوض أن تكرس هذه النصوص الحرية المنصوص عليها في الدستور قامت بتجريم الحرية" وذلك بتأسيس كم هائل من جرائم الرأي كانت بمثابة السيف المسلط على رقاب الحقوقيين والمعارضين للنظام عموما نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر جريمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها وجريمة عقد اجتماعات غير مرخص فيها واعداد محل لعقد تلك الاجتماعات ومسك وتوزيع مناشير مناهضة للنظام وثلب النظام.
تجاوز الحقوق
الأساسية
ثم إن هذه الحقوق الأساسية، على ضعف مضمونها ومحدودية تكريسها، لم تكن بمنئا عن التجاوزات. ففي مخالفة واضحة لأحكام الفصل 7 من دستور 1959 الذي ينص على كونه "يتمتع المواطن بحقوقه كاملة بالطرق والشروط المبينة بالقانون ولا يحد من هذه الحقوق الا بقانون يتخذ لاحترام حقوق الغير ولصالح الأمن العام والدفاع الوطني وللازدهار الاقتصادي وللنهوض الاجتماعي"،
فإن أكثر نص في تونس فيه تضييق للحريات العامة والخاصة جاء في شكل أمر ترتيبي صادر عن السلطة التنفيذية وهو الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 والمتعلق بتنظيم حالة الطوارئ الذي لا زال ساري المفعول الى يوم الناس هذا. وقد رخص الأمر المذكور لوزير الداخلية في أن يضع تحت الاقامة الجبرية كل من يعتبر نشاطه خطيرا على الأمن العام، وأن يغلق قاعات العروض ومحلات بيع المشروبات، وأن يحجر الاجتماعات وأن يأمر بتفتيش المحلات بالليل والنهار، وأن يتخذ كل الاجراءات الضمان مراقبة الصحافة وكل أنواع المنشورات والبث الإذاعي والعروض السينمائية والمسرحية.
وفي مخالفة واضحة لنصوص دستورية أخرى مكرسة لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، رتب الفصل 9 من أمر 26 جانفي 1978 عقوبة جزائية تصل إلى حد السجن لمدة سنتين على كل مخالفة لأحكامه.
الخلاصة العامة إذا هي كون الحقوق الأساسية في ظل المنظومة الدستورية السابقة كانت تشكو اخللات كثيرة على مستوى التنصيص والتكريس وكانت بعيدة عن المعايير الدولية بالرغم من مصادقة تونس على عديد المعاهدات والمواثيق الدولية ذات العلاقة.