Please enable JavaScript.
Coggle requires JavaScript to display documents.
:star: تعقيب شهر مضان 2 - Coggle Diagram
:star: تعقيب شهر مضان 2
:check:
وَهذا شَهرٌ عَظَّمتَهُ وَكَرَّمتَهُ وَشَرَّفتَهُ وَفَضَّلتَهُ عَلى الشُهورِ
:red_flag: والفقرات التي ذكر فيها شهر رمضان ثلاثة
في سرّ الإشارة إلى شهر رمضان بـ"هذا":
يمكن النظر إلى شهر رمضان وأي شهر آخر ثلاثة لحاظات:
اللحاظ الأول: من خلال النظر إليه بما هو شهر هذه السنة لا الشهر العام الذي يتكرر كل سنة. كأن نقول مثلًا شهر رمضان هذه السنة جاء في العام الميلادي الكذائي فهذا حكم لشهر رمضان الخاص في زمن خاص.
وهذه الفقرة التي نحن بصددها تشير إليه بـ"هذا شهر" ويحدس المتأمل من التعبير بـ"هذا" أن المراد هو النظر إلى شهر رمضان باللحاظ الأول أي الشهر الخاص في هذه السنة ، وكلامنا يقع في الفقرة الأولى في معنى اللحاظ الأول.
والدعاء يشير إلى أن هذا الشهر هو أفضل من جميع الشهور، مع العلم أن بقية الشهور قد يحدث فيها أمور عظيمة كانتصارات لجبهة أهل الحق وغيرها من الإنجازات، ومع ذلك نقرّ في هذا الدعاء أن هذا الشهر هو أفضل من كل أشهر السنة هذه، فما السر؟
السنة هذه، فما السر؟
يمكننا أن نجد الإجابة عن هذا السؤال إذا تأملنا في قضية أساسية وقد أشرنا إليها بشكل إجمالي سابقًا، وهي قضية أن الأزمنة تكتسب شرفها بمقدار انتسابها لله تعالى فشرف هذا الشهر هو بهذا المقدار ، وحيث إننا نقرّ بأن هذا الشهر هو أفضل الشهور فينبغي أن نعرف حقيقة الجهة التي من خلالها انتسب إلى الله تعالى وقد ذكر أئمتنا في بعض أحاديثهم وكذلك أكّد مفسرو القرآن وأهل الحكمة والمعرفة أن شهر رمضان في كل سنة له علاقة بشخص ولي الأمر وصاحب كل زمان، ومن دون فهم ولايتهم الفعلية في كل زمان لن نفهم حقيقة شهر رمضان وليلة القدر وبتعبير آخر إن شهر رمضان هو شهر الإنسان الكامل وهو الشهر الذي يبلغ فيه ذروة سلوكه السنوي وقربه من الله تعالى فكما أن الصلاة مثلًا هي دورة سلوكية ويكون السجود فيها هو ذروة القرب من الله تعالى كما عبر الروايات كذلك فلشهور السنة أيضًا مواقع من حيث سلوك الإنسان الكامل فيها ويكون شهر رمضان هو ذروة الغاية في سلوكه وذروة شهر رمضان هي ليلة القدر وسيأتي الكلام حولها، ويذكر أحد العلماء أن مثل هذه القضايا تختص في عالم الأولياء القريب من الله تعالى والتي لا نستطيع نحن فهمها ومثل شهر رمضان لنبيّنا وأهل البيت كمثل ميقات موسى وإذا كان الأمر كذلك فشرف شهر رمضان هذا يرتبط بقضية ارتباط صاحب الأمر بالله تعالى وفي هذا الشهر يتحقق في كيان الإمام الغاية كما يشير إليه العلماء ومن هنا نفهم أن عظمة هذا الشهر إنما هو بسبب ما وصل إليه الإنسان الكامل والولي الأعظم فيه، ولذا فإن لحضوره في أدعيتنا في هذا الشهر نصيب كبير جدًا عندئذ فإننا عندما نقول "هذا شهر عظمته" فإن علينا أن نستحضر مرور كل عظمة بحضور الإمام في حياتنا.
فإن القضية الأساسية التي ينبغي التوجه إليها هي أن شهر رمضان في كل عام هو شهر بلغ من العظمة والرفعة بحيث تحققت فيه أعظم الغايات، والتي ستظهر ترجمتها في أشهر السنة الباقية كما تشير إليها الروايات المتعددة الحاكية عن أن الأقدار تقدّر في شهر رمضان وفي ليلة القدر.
اللحاظ الثاني: من خلال النظر إليه كأحد شهور السنة التي تتكرر في كل عام. كأن نقول شهر رمضان يأتي قبل شهر شوال مثلًا فهذا اللحاظ غير مختص بسنة معينة بل هو حكم عام على كل أشهر رمضان.
الفقرة الثانية " وَهُوَ الشَّهرُ الَّذي فَرَضتَ صيامَهُ عَلَيَّ" يكون النظر فيها إلى شهر رمضان باللحاظ الثاني أي بغض النظر عن وقوعه في زمان خاص، إذ إن الصيام في شهر رمضان غير مخصوص بزمان خاص
اللحاظ الثالث: من خلال النظر إليه كشهر من الشهور الرمضانية السابقة أي التي وقعت في زمن خاص، كشهر رمضان الذي نزل فيه القرآن على نبيّنا (ص)
الفقرة الثالثة التي جاء فيها ذكر شهر رمضان فقد كان باللحاظ الثالث أي الشهر الخاص في الزمن الماضي وهو قولنا "وَهُوَ شَهرُ رَمَضانَ الَّذي أنزَلتَ فيهِ القُرآنَ هُدىً لِلناسِ وَبَيِناتٍ مِنَ الهُدى وَالفُرقانِ" إلى آخر الفقرة.
:red_flag: نعوت شهر رمضان
أولا :العظمة
الصفة الأولى التي نصف فيها شهر رمضان في هذا التعقيب هو أنه شهر معظّم من قبل الله تعالى ، فعظمته – وكذلك باقي النعوت الآتية- سببها الله تعالى ومن فيض العظمة الإلهية التي تشير إلى جهة الجلال الإلهي وإلى جهة مقامه الرفيع ولذا ينبغي أن نلحظها بهذا القيد وكذلك العظمة لشهر رمضان قد تكون بلحاظ حدوث حدث هو نزول القرآن في الزمن الماضي وقد يكون لما يحدث فيه في كل شهر وحيث إن الكلام حول عظمة "هذا الشهر" فينبغي أن يكون الكلام حول العظمة الحدث فيه
وذكر أهل اللغة أن العظمة تقابل الحقارة والضعف وهو ما يكون متفوّقًا في القوة والسؤدد سواء أكان تفوّقًا ماديًا أم معنويًا ولذا فإن الإشارة هنا إلى تفوّق وسؤدد شهر رمضان مقابل بقية الأشهر . وهنا ينبغي أن نستعيد استحضار اسم "العظيم" الذي ابتدأنا به الحديث في الفقرة السابقة، فالله سبحانه العظيم أفاض من عظمته على شهر رمضان فالله سبحانه العظيم والعلي من جميع الجهات، والذي بلغت عظمته بحيث لا يدركه أحد – كما تقدّم- يفيض من اسمه هذا على مخلوقاته سواءً أكان
مخلوقًا إنسانيًا كما في قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: ٤
أم لا، وقد وقع وصف العظمة للقرآن في قوله وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الحجر: ٨٧
وكذلك قد تكون العظمة لحال أو زمان كما في قوله قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الأنعام: ١٥
وعليه فالعظمة الإلهية أطلّت على النبي والقرآن وشهر رمضان، ولذا عدّ بعض العلماء أن هذه الأمور الثلاثة تشترك في سنخ عظمة واحدة، وخاصة إذا عرفنا أن النبي هو حقيقة القرآن وكان خلقه القرآن
ثانيا : التكريم
التكريم صيغة مأخوذة من الكرم والكرامة، وهو على ما ذكره أهل اللغة "صفة لكل ما يحمد عليه"، وهو ما يقابل الهوان
والكريم اسم من أسماء الله تعالى يشير إلى عموم فيض نعمه حيث قال تعالى (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)(النمل 40)
وقد وقع وصف الكرم للنبي(ص) حيث قال تعالى ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) ( الحاقة 40 )
للقرآن أيضًا حيث قال تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (الواقعة 77)
وعليه فإن قضية الكرم كما العظمة أيضًا وصف للقرآن والنبي وفي هذا الدعاء ننسبها لشهر رمضان، وعليه فإن فهم قضية كرامة شهر رمضان كذلك مرتبطة بفهم القرآن والنبي.
والفرق بين العظمة والكرامة كما وهو واضح من التعريفات اللغوية يرجع إلى أن العظيم هو العالي الشأن الذي يشير إلى جهة الرفعة في نفسه بينما صفة الكرامة تشير إلى حيثية ظهور النعمة والأثر الذي يحمد عليه
ومن هنا فإن الدعاء أشار أولًا إلى عظمة شهر رمضان في نفسه والآن يشير إلى النعم التي جعلها الله تعالى له بحيث تستحق حمدًا، وإذا كانت النعم تحدث في الأزمنة المختلفة وللشهر كرامة بالنظر إلى ما يقع فيه من النعم فإن شهر رمضان هو الشهر الذي فاق كل الأشهر من جهة فيضان النعمة فيه
وإذا أردنا التفصيل في موضوع الكرامة وظهور الكمال والنعمة، فإن الله سبحانه جعل محلّ بروز نعمته في التقوى حيث قال (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات 13)
وعليه فكون رسول الله(ص) هو الأكرم بين الخلق إشارة إلى وصوله أعلى مراتب القرب من الله تعالى والتقوى الظاهرية والباطنية
لذا يتضح أن شهر رمضان الذي هو محل بروز الرحمة والفيض الإلهي العميم لا يمكن الاتصال به من دون التقوى، وإن أعظم متصل به هو النبي(ص) وإمام كل زمان(عج)، وينبغي لإدراك كرامة الشهر النظر إلى النعمة العظيمة التي تتجلى فيه
إن شهر رمضان هو محطة وصول صاحب الزمان(عج) إلى ذروة القرب، وهذا القرب يتجلى على مستوى البشرية ككل. وذلك لقوله تعالى إشارة إلى ليلة القدر ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان: ٤
والحدث العظيم فيها هو نزول الملائكة والروح على قلب الإمام(عج) لقوله تعالى قوله ( تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (4)
وخلاصة القضية، إن على السالك إلى الله تعالى أن يدرك قضية أن شهر رمضان هو شهر اتصال الغيب بالشهادة، وهذا الاتصال لا يتم من دون وجود قلب يسانخ العالمين وهو قلب الإنسان الكامل، ويوم الاتصال هو ليلة القدر وشهر الاتصال هو شهر رمضان وهو مصدر جميع البركات والنعم التي تستحق الحمد لله تعالى وهي ظهور الكرم والكرامة، ولعل هذا أحد معاني ضرورة الحجة في الأرض وأنه لولا الحجة لساخت الأرض أهلها لأن مصدر الرزق هو الله تعالى ومن دون الارتباط به يحرم عالمنا من الرزق الكريم كما أشارت إليه الآيات (أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال 4)
ثالثا : التشريف
ذكر أهل اللغة أن الشرف يدلّ على العلو والارتفاع في المنزلة، والله سبحانه هو الأشرف بل هو الشريف الذي لا غير له أصلًا في الشرف، وكل ما يفيضه الله تعالى إنما يكون شريفًا لأنه منتسب إليه "أسألُكَ مِن شَرَفِكَ بِأشرَفِهِ وَكُلُّ شَرَفِكَ شَريفٌ اللهُمَّ إنّي أسألُكَ بِشَرَفِكَ كُلِّهِ
ومن هنا فإن المنزلة العظيمة لأي شخص أو زمان أو مكان لا بد من رجوعها إلى قضية الارتباط بالله تعالى، إذ لا شرف إلا به تعالى ولا منزلة لأحد من الناس إلا بما خوّله الله، والبحث عن المنازل والمقامات خارج إطار الارتباط بالله تعالى هو وهم وسراب، ولذا عدّت بعض الأدعية الإخلاص لله تعالى شرفًا حيث جاء "أسألُكَ بِشَرَفِ الاِخلاصِ فِي تَوحيدِكَ" فالسؤال بلسان الإخلاص في توحيد الله هو غاية الشرف والمقام والمنزلة
وليس الإخلاص إلا أن يستشعر الإنسان في قلبه عدم مؤثرية غير الله وعدم حضور سواه في الحب والفكر والعمل، وأن يكون الإنسان كما عبّر بعض أهل المعرفة قابلًا لكل صورة ترد عليه من قبل الله تعالى، أي أن يكون كالمرآة لا شأن لها إلا إظهار صورة المحبوب في نفسها، وهذا هو الإخلاص، أن يسعى كل إنسان إخراج كل اعتراض وسخط على ربه وأن يجعل قلبه قابل كل صورة ترد عليه.
وإذا كان الشرف الأعظم والمقام الأسنى للإنسان بالإخلاص وبتسليم الأنا لله تعالى وبتكسير صنم النفس، فعندئذ لن يكون هنالك مقام أعظم منه، إذ غاية ما يمكن أن يصل إليه الإنسان هو العبودية، ولذا كان الشريف بالإخلاص والعبودية أعظم الناس، وقد ذكرنا سابقًا أن "الكرامة" التي تعني ظهور النعم وأن المكرّم هو الذي ظهرت فيه كل الصفات الإلهية، فإن الأمر يزداد وضوحًا إذا علمنا أن كل كرامة ونعمة تظهر في الإنسان إنما هي بشرف العبودية والإخلاص، لذا كان مقام النبي(ص) وأهل البيت(ع) هو أشرف محلّ المكرّمين كما جاء في الزيارة "فَبَلَغَ اللهُ بِكُم أشرَفَ مَحَلِّ المُكَرَّمِينَ وَأعلى مَنازِلَ المُقَرَّبِينَ"، وكذلك شرفهم فاق كل شرف لعبوديتهم هذه "طَأطَأ كُلُّ شَرِيفٍ لِشَرَفِكُم"
والأمر كذلك بالنسبة لشهر رمضان، فإن شرفه بشرف العبودية العظمى التي تتجلى فيه، الابتهال إليه وإظهار الخضوع والخشوع إليه هو محل شرف هذا الشهر، وكيف إذا كان هو شهر إظهار أعظم مظاهر العبودية في كيان صاحب العصر؟ فحتمًا سيكتسب الشرف العظيم لهذه القضية.
رابعًا: التفضيل
الفضل هو الزيادة عن الحد المعهود، هكذا ذكر أهل اللغة. القضية الأساسية في بحث التفضيل الإلهي هو ما ذكرته الآية القرآنية (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا )(النور 21)
الله سبحانه هو المتفضّل وهو الجواد وصاحب الفضل المطلق، وإليه يرجع كل فضل وكل عطاء، ولكن عطاء الله سبحانه في الحقيقة يرجع إلى ظهوره وتجليه، وبتعبير آخر، إن حقيقة العطاء والفضل الإلهيين ترجع إلى أن "أسماء الله سبحانه تظهر في العوالم كلها" ويكون ظهورها هو حقيقة الفضل، لأن الله تعالى لم يخلق ولم يعط لحاجة لديه بل كل عطاء هو تفضل وزيادة منه، وما حقيقة الفضل إلا ظهوره، مثله كمثل النور الذي من مقتضياته الظهور فإذا ظهر في بقعة ملأها ضياءً وأزال عنها الظلمة، والله سبحانه هو الجمال على الإطلاق وكما يقول أهل المعرفة "الملآن يوجب الفيضان"، وقد ذكرت هذه الحقيقة – أي كون الفضل هو عبارة عن ظهور أسمائه- في دعاء السمات حيث نقرأ "وَبِكَلِماتِكَ الَّتي تَفَضَّلتَ بِها عَلى أهلِ السَّماواتِ وَالأرضِ، وَأهلِ الدُّنيا وَأهلِ الآخرةِ".
فإن الله سبحانه صاحب الفضل العميم الذي لا يمنعه مانع، وهذه هي القضية الثانية، فبعد أن اتضح أن كل عطاء إلهي هو فيض وزيادة منه لعدم حاجته إلى الخلق كلهم، لا بد من الالتفات إلى عموم الفيض، وأننا كلنا متصلون به في كل آن، وما علينا إلا السؤال والطلب، كما كنا نقرأ في شهر رجب " وَفَضلُكَ مُباحٌ لِلسَّائِلينَ" هذا تعبير جميل جدًا أنه عبر عن كون الفضل مباح ولا قيد عليه المهم أن يسأل الإنسان
قضية العبودية تأتي إلينا مرة أخرى، لأنها عين العطش والسؤال لله تعالى وإذا أردنا أن نطلق لفظًا جامعًا لحقيقة العبودية لقلنا إنها العطش للوجود ولكمال الوجود وكنا قد ذكرنا مرارًا أن العبودية هي المقام اللائق بالإنسان وأنها سر عظمة أهل البيت إلا أنه ومضافًا إلى هذه القضية، فإن في العبودية أمر آخر، وهو أنها مصدر الخيرات ومغناطيس الفضل الإلهي
، بيان هذا الأمر: إن العبودية كما ذكرنا سابقًا تتجلى في أن ينتزع الإنسان من نفسه كل أنانية وكل توجه لغير الله وأن يجعل قلبه قابلًا لما يريده الله ولأسمائه، هذا القلب يكون في الحقيقة كالمرآة التي ظهرت فيها شمائل المحبوب، ولذا جاء في الرواية أن العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد في العبودية وجد في الربوبية.
وإذا اتضح كل هذا، عرفنا فضل نبيّنا(ص) على سائر الأنبياء حيث إن تفضيله عليهم بظهور أسماء الله تعالى فيه.
واتضح أيضًا أن فضل شهر رمضان بفضل الظهور التام لأسماء الله تعالى على قلب نبيّنا(ص) في نزول القرآن الذي هو التجلي الأعظم لله تعالى وعلى قلب صاحب الزمان(عج).
:check:
وَهُوَ الشَّهرُ الَّذي فَرَضتَ صيامَهُ عَلَيَّ
وهذه الفقرة تظهر لنا أن العبادة التي تعين السالك على ورود باب القرب هي عبادة الصوم، فهي عبادة تزاد على ما كان يمارسه الإنسان من عبادات وطاعات ومقرّبات في كل السنة، بتعطي صبغة جديدة، فقد حان وقت الجهد والجهاد الأكبر.
الأمر الأول: علاقة الصوم بالعبودية
إن فطرة الإنسان التي خلقها الله تعالى بما يلائم التوجه إليه والتحبب إليه، منسوجة من شعبتين، الأولى حب الكمال المطلق والثانية النفور من النقص، وقد أفاض العرفاء وأهل السلوك في هذه القضية، إذ ذكروا أن كل الناس بل كل موجود من الثرى إلى الثريا، مفطورون على الشوق لله تعالى والتوجه الجبلّي الفطري إليه، حتى شبّه بعض الشعراء العلاقة بين فطرة الإنسان والله تعالى بالعلاقة بين المغناطيس والحديد، فإن أساس خلقة المغناطيس انجذابه للحديد، وهذه حال فطرتنا
فطرة الانجذاب للكمال المطلق يلزم منها أيضًا النفور من النقص، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الدين والشرائع بُنيت على وفق هذه الفطرة والغاية، بل إن الدين هو الفطرة كما في قوله تعالى
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30)
وعندئذ فكل فريضة غايتها الجذب نحو الله تعالى والتنفير عن غيره، ففي عبادة الصلاة مثلًا عند توجهنا للقبلة وذكرنا لله تعالى نتوجه إليه بصفاته الكمالية حتى يستشعر القلب الانجذاب نحوه، فالصلاة تملأ جانب فطرة الانجذاب نحو الكمال المطلق، وأما عبادة الصوم، فأمرها مختلف، إذ هي ترك في ترك، وغايتها ملء الفطرة الثانية أي التنفير من غير الله تعالى، وإخراج الإنسان من الوهم الذي يحسب لغير الله تعالى مقامًا ومعنى بمعزل عنه. – وإن أمكننا تصوير وجود الفطرتين في كل عبادة إلا أن أحد الفطرتين أبرز من الثانية كما هو واضح- .
علينا أن ننظر للفرائض على أنها ضرورات للسلوك، فليس كون الصوم في شهر رمضان فريضة إلا لأن النفس لا يمكنها أن تحصل الغاية إلا بها.
في الصوم يترك الإنسان اللذائذ والعادات، يأتي شهر رمضان ليكسر العادة، وقد ذكر أهل السلوك أن الخروج من العادات أول مراتب السير، وكذلك الخروج عن مركز الشهوات كالطعام والشراب، وإذا اتضح هذا الأمر علمنا قضية مركزية في السير إلى الله تعالى ألا إن مخالفة الهوى والعزوف عن أسر الشهوات ركن القرب والعبودية.
وذكر بعض أهل الحكمة أن بعض العارفين لقي في سياحته سالكًا فقال: كيف الطريق إلى الله؟ قال السالك: في خلاف الهوى. قال فما خير الزاد؟ قال: التقوى
ويمكننا أن نقول إن التقوى والتي تعني البرنامج العملي للشرائع هو طريقة مخالفة الهوى ولا طريق آخر كما يشير إليه بعض الحكماء ، وهذا ما يجعل الصوم من أهم أركان الوصول إلى الله ومخالفة الهوى حيث قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
الأمر الثاني: في مراتب الصوم وفوائده السلوكية
الأصل في الصوم قطع العلائق عما سوى الله تعالى، فكل مراتب الصوم تقع في صراط هذه الغاية، وذلك لأن العبودية التي هي الغاية لا تتحصّل إلا في تمحّض التوجه نحو الله تعالى واندكاك النفس بجميع مراتبها في إرادة الله.
وحيث إن للنفس مراتب ولكل مرتبة جنود، فإن الصوم يقع على كل مرتبة بتهذيب الجنود وترسيخ ولاءهم لمولاهم الحق تعالى.
فهذه ثلاث مراتب للصوم رتّبها أهل المعرفة في كتبهم
فمرتبة الظاهر ونشأة المادة، التي تتجلى فيها النفس في الجسد، جنودها الحواس والجوارح، ويكون تهذيب هذه الجنود بأن تكون محرَّكة بتحريك الله لها وذلك بظهور إرادته فيها ولا يكون ذلك دون قلع مادة تحريك غيره لها، وهذا هو صومها، فللعين التي هي أحد الجنود صوم وللأذن صوم وللبطن واللسان وسائر الجوارح صوم كذلك، وغاية صوم هذه المرتبة أن يصبح ظاهر الإنسان في هذه الدنيا نسخة عن ظاهر النبي وآله لأن نفوسهم هي حقيقة العبودية
فعلى السالك إلى الله في أول شهر رمضان مراقبة ظاهره بأن يأبى لجوارحه أن تظهر بغير مظهر العبودية.
. وأما المرتبة الثانية فهي مرتبة الخيال أو ما يقال له نشأة المثال، وجنود هذه النشأة الخواطر والأفكار وحديث النفس وأمثال هذه القضايا التي ينبغي للإنسان تسخيرها في صراط معرفة الله تعالى، لأن الخواطر ناتج الفراغ في الفكر، فإن تهذّب الفكر قلّت الخواطر الشيطانية
وأخيرًا المرتبة الثالثة وهي نشأة القلب واللب، أي حقيقة الاعتقادات التي تمثّل هوية النفس الإنسانية وقد يطلقون عليها نشأة العقل، ولكنها في مقامنا هنا إشارة إلى ما يشكّل الهوية المعنوية والمعرفية للنفس على وجه الحقيقة لا فقط على نحو الأفكار والمعلومات، وجنود هذه المرتبة الحب والشوق والآثار المعنوية الأخرى والوظيفة في هذه المرتبة تهذيب جنود القلب فلا يرى غير الله تعالى.
وحيث إن مركز الشهوات البدنية يتجلى في الطعام والشراب كان الصوم بأبرز مظاهره متجليًا بالانقطاع عنهما، وإذا أحكم السالك صومه في هذه المرتبة تهيأت نفسه للعبور إلى المرتبة الأعلى، ومقصدنا من التهيّؤ هو صيرورة النفس مشتاقة للعبودية في نشآتها الأعلى، ومن لم يحكم صوم الظاهر فلا طريق له للباطن وقد ذكروا للجوع والعطش فوائد تُظهر معنى التهيّؤ المذكور:
صفاء القلب لما في الشبع من التهاء للنفس بالهضم وشؤونه.
الانكسار والذل بإدراك الضعف والفقر الإنساني لتوقف استقامة بدنه على لقيمات وشربات
سكون النفس من الاضطرابات الناشئة من طغيان الشهوة وطلبها
وإذا حصل هذا الأمر بالتوجّه، فعلى السالك أن ينتقل لصوم الجوانح والخواطر والخيالات، وذلك بإدامة الفكر والذكر وقراءة القرآن والاشتغال بالمعرفة التي تكبح جماح الخيال من التوجّه لما يشغلها، فإن طلب العلم ومعرفة الله يشغل العقل بما يجعله منشغلًا عن الانشغال بالخيالات، ومن طلب معرفة الله هانت عليه أسباب الغضب والكبر والحسد، لأن هذه الرذائل تعود كلها لمنافع الصيت والجاه والمادة، وإدمان معرفة الله تجعله يسخر من كل شاغل من هذا القبيل، فيترك أسباب سيئات الأخلاق تعففًا عما في أيدي الناس.
وإذا اعتاد الفكر في الله وصفاته، انتقل لما هو أعلى، وهو الحب والمناجاة، فيوقع على قلبه معاني المعرفة، ويناجي ربه منقطعًا عن كل ما سواه، وهو كمال الانقطاع.